فصل: فصــل: اللذة والسرور في معرفة الله وطاعته

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصــل

وفي الجملة، ما يبين نعم الله التي أنعم بها على وأنا في هذا المكان، أعظم قدرًا وأكثر عددًا ما لا يمكن حصره، وأكثر ما ينقص على الجماعة، فأنا أحب لهم أن ينالوا من اللذة والسرور والنعيم ما تقر به أعينهم، وأن يفتح لهم من معرفة الله وطاعته والجهاد في سبيله مـا يصلون بـه إلى أعلى الدرجـات، وأعـرف أكثر الناس قدر ذلك فإنه لا يعرف إلا بالذوق والوجـد، لكن ما من مؤمن إلا له نصيب من ذلك، ويستدل منه بالقليل على الكثير وإن كان لا يقـدر قـدره الكبير، وأنـا أعـرف أحـوال الناس والأجناس واللذات، وأين الدر من البعر‏؟‏ وأين الفالوذج من الدبس‏؟‏ وأين الملائكة من البهيمة أو البهائم‏؟‏ لكن أعـرف أن حكمـة الله /وحسـن اختياره ولطفـه ورحمته يقتضي أن كل واحد يريد أن يعبد الله ويجاهد في سبيله ـ علمًا وعملا بحسب طاقته ليكون الدين لله، ويكون مقصوده أن كلمة الله هي العليا، ولا يكون حبه وبغضه ومعاداته ومدحه وذمه إلا لله ـ لا لشخص معين‏.‏

والهادي المطلق الذي يهدي إلى كل خير ـ وكل أحد محتاج إلى هدايته في كل وقت ـ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أفضل أمته أفضلهم متابعة له، وهذا يكون بالإيمان واليقين والجهاد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا‏}‏إلى قوله‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ‏}‏‏[‏الحجرات‏:‏ 15‏]‏، فبين ـ سبحانه وتعالى ـ أن المؤمن لابد له من ثلاثة أمور‏:‏

أولها‏:‏ أن يؤمن بالله ورسوله‏.‏

وثانيها‏:‏ لا يرتاب بعد ذلك‏:‏ أن يكون موقنًا ثابتًا، واليقين يخالف الريب، والريب نوعان‏:‏ نوع يكون شكًا لنقص العلم‏.‏ ونوع يكون اضطرابًا في القلب‏.‏ وكلاهما لنقص الحال الإيماني، فإن الإيمان لابد فيه من علم القلب، وليس كل مكان يكون له علم يعلمه‏.‏ وعمل القلب أو بصيرته وثباته وطمأنينته وسكينته وتوكله وإخلاصه وإنابته إلى الله تعالى، وهذه الأمور كلها في القرآن‏.‏ يقال‏:‏ رابني كذا وكذا / يريبني، أي‏:‏ حرك قلبي، ومنه الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه مر بظبي حاقف فقال‏:‏ ‏(‏لا يريبه أحد‏)‏ أي‏:‏ لا يحركه أحد‏.‏ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏دع ما يريبك إلى ما لا يريبك‏)‏‏.‏ فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة، فإن الصادق من لا يقلق قلبه والكاذب يقلق قلبه، وليس هناك شك بل يعلم أن الريب أعم من الشك‏.‏

ولهذا في الدعاء المأثور‏:‏ ‏(‏اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك‏)‏ الحديث إلى آخره‏.‏ وفي المسند والترمذي عن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال‏:‏ ‏(‏سلو الله اليقين والعافية، فإنه لم يعط خيرًا من اليقين والعافية فاسألوها الله ـ سبحانه وتعالى‏)‏‏.‏ والعـرب تقول‏:‏ ماء يقن، إذا كان ساكنًا لا يتحرك‏.‏ فقلب المؤمن مطمئن لا يكـون فيـه ريب‏.‏ هـذا معني قـولـه ـ سبـحانه وتعالى ـ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ‏}‏‏[‏الحجـرات‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وفي الصحيـحين عـن سـعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنـه ـ‏:‏ قـال‏:‏ أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم رهـطًا ولم يعط رجلاً وهو أحب إلى منهم فقلت‏:‏ يا رسول الله، مـالك عـن فـلان‏؟‏ فـوالله إني أراه مـؤمنا، قـال‏:‏ ‏(‏أو مـسلمًا‏)‏ مرتين أو ثلاثا ثم قال‏:‏ ‏(‏إني لأعطـي الرجـل وغيره أحب إلى منه خشية أن يكبه الله على وجهه في النار‏)‏‏.‏

ولهذا قال أبو جعفر الباقر وغيره من السلف‏:‏ الإسلام دائرة / كبيرة، والإيمان دائرة في وسطها؛ فإذا زنا العبد خرج من الإيمان إلى الإسلام‏.‏ كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن‏)‏‏.‏

وهذا أظهر قولي العلماء‏:‏ إن هؤلاء الأعراب الذين قالوا‏:‏ أسلمنا ونحوهم، من المسلمين الذين لم يدخل الإيمان المتقدم في قلوبهم يثابون على أعمالهم الصالحة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا‏}‏‏[‏الحجرات‏:‏ 14‏]‏‏.‏ وهم ليسوا بكفار ولا منافقين، بل لم يبلغوا حقيقة الإيمان وكماله، فنفي عنهم كمال الإيمان الواجب‏.‏وإن كانوا يدخلون في الإيمان، مثل قوله‏:‏ ‏{‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ‏}‏‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ‏}‏‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، وهذا باب واسع‏.‏

والمقصود إخبار الجماعة بأن نعم الله علينا فوق ما كانت بكثير كثير، ونحن ـ بحمـد الله ـ في زيادة من نعم الله وإن لم يمكن خدمة الجماعة باللقاء، فأنا داع لهم بالليل والنهار، قيامًا ببعض الواجب من حقهم، وتقربًا إلى الله ـ تعالى ـ في معاملته فيهم‏.‏ والذي آمر به كل شخص منهم أن يتق الله ويعمل لله، مستعينًا بالله، مجاهدًا في سبيل الله، ويقصد بذلك أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن / يكون الدين كله لله، ويكون دعاؤه وغيره بحسب ذلك،كما أمر الله به ورسوله‏:‏

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، واهدهم سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النـور، وجنبهم الفواحـش ما ظهر منها وما بـطـن، وبارك لهم في أسـماعهم وأبصـارهم ما أبقيتهم، واجعلهم شاكرين لنعمك مثنين بها عليك، قابليها، وأتممها عليهم يا رب العالمين‏.‏ اللهم انصر كتابك ودينك وعبادك المؤمنين، وأظهر الهدي ودين الحق الذي بعثت به نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم على الدين كله‏.‏ اللهم عذب الكفار والمنافقين، الذين يصدون عن سبيلك ويبدلون دينك ويعادون المؤمنين‏.‏ اللهم خالف كلمتهم، وشتت بين قلوبهم، واجعل تدميرهم في تدبيرهم؛ وأدر عليهم دائرة السوء‏.‏ اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين‏.‏ اللهم مجري السحاب، ومنزل الكتاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وزلزلهم، وانصرنا عليهم‏.‏ ربنا أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدي لنا، وانصرنا على من بغي علينا‏.‏ ربنا اجعلنا لك شاكرين مطاوعين مخبتين أواهين منيبين‏.‏ ربنا تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبت حجتنا، واهد قلوبنا؛ وسدد ألسنتنا / واسلل سخائم صدورنا‏.‏

وهذا رواه الترمذي بلفظ إفراد، وصححه، وهو من أجمع الأدعية بخير الدنيا والآخرة، وله شرح عظيم‏.‏

والحمد لله ناصر السنة، وخاذل أهل البدعة والغرة، وصلي الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا‏.‏